المادة    
  1. امتناع نفاذ الوعيد بالدعاء لمن كان كافراً

    والذين يشملهم منع إنفاذ الوعيد حسب الذنوب أصناف ثلاثة: أصحاب الشرك الأكبر، وأصحاب الكبائر، وأصحاب الصغائر.
    أما المشرك الكافر فلا ينتفع بشيء من الدعاء أبداً، بل الثابت النهي عن أن يدعى له، فلا ينتفع المشرك بشيء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، وقال تعالى: (( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72]، وهذا وحده دليل كاف على أنه لا يستغفر لمشرك؛ لأنه لا ينتفع بذلك، والمقصود بالاستغفار هو الانتفاع، فهذا كفره وشركه يجعله لا ينتفع بذلك أبداً.
    وقد وردت أيضاً أدلة خاصة في أن من مات على الكفر أو على الشرك لا ينفعه شيء، بل نهي عن الدعاء له، ومنها: (( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ))[التوبة:113]، يعني: قبل ذلك لا يؤاخذ الله تبارك وتعالى به، لكن بعد أن بين الله لهم ما يحذرون من هذا الشأن، وتبين لهم أن من مات على الشرك لا تنفعه شفاعة الشافعين ولا دعاء الداعين ولا استغفار المستغفرين؛ لكن بعد ذلك لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك.
    وهذه الآية -كما روى الإمام البخاري رحمه الله- نزلت في شأن أبي طالب لما جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه عز وجل بقوله: (( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ))[التوبة:128]، وهو -صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس شفقة ورحمة ورأفة بالناس، وليس بالمؤمنين فقط، بل إن رحمته وشفقته صلوات الله وسلامه عليه تعدت ذلك إلى أعدائه، وتعدت ذلك إلى البهائم وإلى من يستحق الرحمة في هذا الوجود، فالنبي صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه حرص على نجاة عمه أبي طالب ، ولمعرفته صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ومؤمنة كان يريد من عمه أن يسلم، فكان يقول: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله )، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في مبحث الإيمان الاستدلال بهذا على أن التصديق بالقلب مع عدم الإقرار باللسان لا ينفع شيئاً؛ لأنه لا شك عندنا في أن أبا طالب كان مصدقاً بقلبه، وليس في هذا ريب، فقد قال:
    ولقد علمت بأن دين محمد                         من خير أديان البرية ديناً
    لولا الملامة أو حذار مسبة             لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
    فكان يخشى إن أعلن ذلك قول القائل: تركت ملة عبد المطلب واتبعت فلاناً، حدت عما كان عليه الآباء والأجداد! وهكذا المعايير الجاهلية.
    فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم -حرصاً منه صلوات الله وسلامه عليه على نجاته من النار- أن يعطيه هذه الكلمة ليحاج له بها عند الله عز وجل ليتجاوز الله تعالى عنه؛ لأنه لو آمن حينئذ فلن يؤمن إلا عند الموت، إذ إنه ما كان مؤمناً في الدنيا، ولم يكن مع المؤمنين بما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان حامياً وناصراً للإسلام، وهو أعظم من حمى هذا الدين حتى قبضه الله تعالى إليه، ولكن لوجود دعاة السوء وقرناء السوء عند الموت لم يسلم، فضررهم عظيم في الدنيا وعند الموت وأينما وجدوا، وكان من سوء الخاتمة أن يأتي في تلك الساعة عدو الله أبو جهل و عبد الله بن أمية وأخذوا يقولون له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! فكان ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقر بها عينه، وينظر إلى الآخرين فيثيران فيه نعرة الجاهلية والاعتداد بما كان عليه الآباء والأجداد، فاحتار وتردد، وفي النهاية كان آخر ما نطق أن قال: (هو على ملة عبد المطلب) نسأل الله العفو والعافية وأن ينجينا ويعيذنا من سوء الخاتمة، فقبضه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما -والله- لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا استغفار للمشركين ولا انتفاع لهم بذلك.
  2. توجيه ما ذكر في القرآن والسنة من الاستغفار للكافر

    وأما استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه، كما في قوله تعالى: (( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ))[التوبة:114]، فقد بين الله سبحانه وتعالى أنه كان عن موعدة وعدها إياه، ((فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ))[التوبة:114].
    وكذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه، وهو في الصحيحين ، فقد قال رضي الله عنه: ( لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه )، وقد كان عبد الله بن أبي منافقاً، ولم يكن مشركاً كما كان أبو طالب ، وإنما كان منافقاً يظهر الإسلام وهو يبطن الكفر، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، قال: ( فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت: يا رسول الله! أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟! أعدد عليه قوله ) أي: أخذ يعدد على النبي صلى الله عليه وسلم ما قال يوم أحد ، وما قال يوم المريسيع ، وما قال يوم الخندق ، وقد قال أقوالاً عظيمة، فكان يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: هو الذي يقول هذا، أتصلي عليه؟! قال: ( فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وانظر إلى كمال شفقته على ذلك الميت وكمال حلمه عن هذا الحي الذي وثب إليه يذكره بهذه الأمور صلوات الله وسلامه عليه، فما أحلمه وما أكرم خلقه! قال: ( أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه، قال: إني خيرت فاخترت ) أي: ما منعت عن الاستغفار ( لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ) يعني قوله تعالى: (( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ))[التوبة:80]، فما أكمل رأفته وشفقته صلوات الله وسلامه عليه! فانظر إلى شدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن ينال الناس مغفرة الله لا أن ينالهم عذاب الله عز وجل، وهذا منهج للدعاة، فينبغي أن نحرص أشد الحرص على أن يتوب التائب وأن يستغفر المذنب وأن يعفو الله تعالى عنه وأن يدفع عنه العذاب، لا أن نحرص على إنزال العذاب أو العقوبة بالناس في الدنيا أو في الآخرة، لا العقوبات الشرعية المقدرة التي بأيدي الناس، ولا العقوبات الكونية التي يقدرها الله سبحانه وتعالى من عنده، والأصل الحرص على العفو والعافية لنا ولكل المذنبين رجاء أن يتوب الله تعالى عليهم وأن يغفر الله لكل مسلم، فنبذل لذلك أي جهد نستطيعه من الائتساء والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا، وهذا لا يتنافى مع الغلظة على المنافقين والغلظة على أهل البدع؛ إذ بعض الناس يخلط بين الأمرين، نعم لابد من الإغلاظ على المنافقين والإغلاظ على أهل البدع وزجرهم وإقامة الحجة عليهم وهجرهم بما فيه المصلحة، وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة ، وقد دلت عليه نصوص كثيرة، ولكننا ونحن نعاقب أو نرجم أو نجلد أو نزجر أو نهجر غرضنا الإصلاح، وأملنا أن يتوب وأن يهتدي المجرم، فالمرجوم لما هرب من الحجارة قال صلى الله عليه وسلم: ( هلا تركتموه؟! ) وهو قد رجم عن إقرار لا عن بينة.
    فلا تنافي بين الأمرين، فيمكن أن تكون أشد الناس حرصاً على إقامة الحق وإقامة حدود الله، وفي نفس الوقت تكون من أرأف الناس وألطف الناس وأسمحهم وأحرصهم على أن يهديهم الله سبحانه وتعالى، فلا يعاقبون بيدك ولا بعقوبات الله الكونية.
    يقول عمر رضي الله تعالى عنه: ( فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: (( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ))[التوبة:84] إلى قوله: (( وَهُمْ فَاسِقُونَ ))[التوبة:84]، قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم )، يعني أنه بعد ما نزلت وافقت قوله ورأيه.
    وهذا ينطبق على من مات الآن، إلا أنه قد يشكل على بعض الناس أمر المنافقين، حيث كان حذيفة رضي الله عنه يترك الصلاة عليهم ويصلي عليهم غيره من المسلمين، ولا إشكال في ذلك في الحقيقة؛ لأننا إنما نتحدث عمن ظهر نفاقه وزندقته وكفره، لا عمن خفي أمره على بعض الناس وظهر لبعضهم، فيصلي عليه من خفي عليه أمره، ولا يصلي عليه من عرف حاله.
  3. الدعاء والاستغفار لأصحاب الكبائر

    الصنف الثاني: أصحاب الكبائر، فهل يستغفر لأهل الكبائر ويدعى لهم؟!
    والجواب: أن ذلك يجوز عند أهل السنة والجماعة ، وفي ذلك كلام لـشيخ الإسلام رحمه الله تعالى، يقول: (يجوز عندهم -أي: عند أهل السنة والجماعة - أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره، وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره، وإما بغير ذلك).
    ويمكن أن نوضح ذلك بأن نقول: إذا كان الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه أن كل ذنب دون الشرك فإنه تحت مشيئة الله، وأنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، فنحن نسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لمرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك، ولا حرج في هذا؛ لأنه تعالى إنما استثنى من ذلك الشرك، وأما ما دونه فيغفره، فنحن ندعو بالمغفرة لمن كان هذا حاله، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: صلاة المسلمين على الميت ودعاؤهم له من أسباب المغفرة، وكذلك دعاؤهم واستغفارهم في غير صلاة الجنازة.
    ثم إن هنالك أدلة تدل على مشروعية الاستغفار لأهل الكبائر:
    الدليل الأول: عموم النصوص الدالة على مشروعية الاستغفار للمؤمنين؛ لأنا إذا أخرجنا الشرك والمشركين فمن دونهم هم المؤمنون، ويدخل فيهم أصحاب الكبائر، فقوله تعالى: (( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ))[محمد:19] يدخل فيه أصحاب الكبائر؛ لأن أخوة الإيمان ثابتة لا تنتفي بارتكاب الكبيرة، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ))[الحجرات:10]، وقال تعالى: (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ))[الحجرات:9]، فهم إخوة ومؤمنون وإن وقع بينهم القتال، وقال تعالى: (( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ))[البقرة:178]، فأثبت الله سبحانه وتعالى أخوة البغاة وأخوة المتقاتلين وإيمانهم، فدل ذلك على أنه يشملهم الاستغفار للمؤمنين عامة.
    ومن الأدلة على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: ( أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )، وفي بعض الروايات: ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )، وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء، ولكن بعضهم جمع طرقه فوجد أنه يشد بعضها بعضاً، فترجح أنه يحتج به.
    وأما معناه فحق ولا إشكال فيه؛ لأن الذين يجوزون الصراط كالبرق الخاطف ويدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب هم السابقون الأولون، وليسوا هم أهل الشفاعة التي هي أهم ما يحتاج إليه الناس، فهؤلاء لا حاجة لهم إليها بفضل الله تبارك وتعالى، إنما الشفاعة التي تدخر والتي يحتاج إليها من يكون في أشد الحاجة والضرورة هي الشفاعة لأهل الكبائر، فهؤلاء هم الذين يحتاجون إليها، ولو لم تشملهم لدخلوا النار، وكذلك الشفاعة لإخراج من دخلها؛ لأنها لو لم تشملهم لخلدوا فيها، كما في حديث الجهنميين، فهؤلاء هم المحتاجون إليها، وهم الذين يقتضي الحال أن يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لتكون شفاعة لأمته يوم القيامة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يختار لنا إلا الأفضل، فالأفضل في حقنا هو الشفاعة، ففضل النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة على أن نكون نصف أهل الجنة، وكل هذه النماذج تدل على كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته ورحمته بالمؤمنين، فهو صلى الله عليه وسلم بإعلام الله له وإطلاعه علم أن الشفاعة أعظم وأفضل، فاختار الشفاعة، فشفاعته لأهل الكبائر من أمته حقيقة، مع ورود هذا اللفظ منه صلى الله عليه وسلم.
    ويدل على ذلك أيضاً ما سبقت الإشارة إليه في حديث الصلاة على القبر برواياته، ومنها رواية عائشة رضي الله تعالى عنها: ( ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه ) هذه رواية، والرواية الثانية فيها أنهم أربعون، ولا تعارض، بل هناك رواية ثالثة أنهم ثلاثة صفوف، وهي: ( ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف إلا أوجب )، ولا تعارض بينها إن شاء الله، فهي محمولة على أن يكون صلى الله عليه وسلم أخبر أولاً عن المائة، ثم أخبر عن الأربعين، ثم أخبر عن الثلاثة الصفوف، وهذا فضل من الله عز وجل.
    والصف يطلق على اثنين، ولذلك يستحب للمصلين على الجنازة أن يقسموا أنفسهم إلى ثلاثة صفوف وإن قلوا حتى ينالوا -إن شاء الله- ذلك الأجر ويصل إلى الميت ذلك الوعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وكونهم يشفعون فيه دليل على أنه كان من أهل الكبائر، فالله سبحانه وتعالى يقبل شفاعتهم ويتجاوز عن ذنبه وعن كبيرته بسبب هذه الصلاة عليه.
    وقد ذكر الشوكاني رحمه الله تعالى كلاماً قيماً في نيل الأوطار في دلالة هذا الحديث، حيث قال رحمه الله تعالى ما مفاده: إن دلالة هذا الحديث مقيد بأمرين:
    الأول: أن يكونوا شافعين له؛ لأنه قال في حديث عائشة: (كلهم يشفعون له)، أي: مخلصين له سائلين له المغفرة، فدليل هذا القيد حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وما رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) وهو حديث حسن، فمع ثبوت ذلك الفضل لا ينبغي لأحد أن يفهمه على إطلاقه، ولهذا ينبغي أن يتنبه المسلمون عامة إلى أن هذا الفضل قيد بالإخلاص، أن يخلصوا الدعاء ويجتهدوا في أن يشفعوا فيه، أي: يدعون له بإخلاص وحضور قلب.
    يقول المناوي رحمه الله: (المقصود بهذه الصلاة إنما هو الاستغفار والشفاعة للميت، وإنما يرجى قبولهما عند توفر الإخلاص والابتهال).
    القيد الثاني: سلامة الشافعين من الشرك، فإذا كان الداعي مشركاً ويستغفر للميت ويدعو له فإن دعاءه لا ينفع ولو كان يدعو لغير مشرك، حتى الشرك الأصغر؛ لقوله في رواية ابن عباس : ( ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعوا فيه )، فقوله: (لا يشركون بالله شيئاً) قيد، وينبغي للإنسان أن يتفطن له؛ لأن الأصل في المؤمن أنه لا يشرك بالله عز وجل شيئاً، وأنَّه يخاف من الشرك صغيره وكبيره، ففي هذه الحالة يكون الخوف منه أشد وأعظم، فيخاف الإنسان منه حين يدعو لأخيه المسلم؛ لأنه مهما أخلص واجتهد في الدعاء وهو متلبس بشيء من الشرك لا يتحقق له ذلك، فيخشى أن لا يتحقق له هذا الوعد الذي قيد بقوله: (لا يشركون بالله شيئاً) وهنا مسألة، وهي في الذين لا يصلى عليهم.
    فأحدهما: الغال من الغنيمة، وقد قال تعالى: (( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[آل عمران:161]، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن زيد بن خالد الجهني : ( أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم ) وقد توفي وهم في غزوة خيبر ، ( فقالوا: يا رسول الله! إن فلاناً قد مات ). يؤذنونه صلى الله عليه وسلم كعادتهم ليصلي على الميت، ويرجون له بذلك الغفران بمشيئة الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا على صاحبكم ). فتغيرت وجوه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، إذ هذه مصيبة عظيمة، وهي ألا يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم، نسأل الله العفو والعافية.
    فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن صاحبكم غل في سبيل الله. قال: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز يهود لا يساوي درهمين )، فمنع عنه هذا الخرز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فانظر إلى الخسارة التي تحل بالإنسان في كل زمان وفي كل مكان حين يختار الدنيا ويؤثرها على الآخرة وتغلب عليه الشهوة والشح وينسى ما وعد الله تعالى به المؤمنين الذين صبروا واحتسبوا وترفعوا عن هذا! ففي خرز من خرز اليهود كانت هذه النتيجة وكانت هذه العاقبة، نسأل الله العفو والعافية.
    وهذا الغلول ليس خاصاً بمن يأخذ في مثل هذه الحالة، أي: في الجهاد؛ لأن المال مال الله وحق الله عينه وقسمه في كتابه بين الغانمين وغيرهم، فكل آخذ من بيت مال المسلمين بغير حق يناله هذا الوعيد، نسأل الله العفو والعافية، فلا يظن الإنسان أن هذا خاص بالجهاد وإن كان وارداً فيه، فالظاهر أن هذا عام، ولا شك في أن الغلول في الجهاد أفحش وأشد وأشق، لكن لا يعني ذلك اختصاصه بهذه العقوبة، بل ينبغي لكل مؤمن أن يخاف وأن يخشى من أي اختلاس أو أخذ أو نهب من بيت مال المسلمين بغير حق بأي سبب من الأسباب، نسأل الله العفو والعافية.
    والآخر: هو الرجل الذي قتل نفسه بمشاقص، نسأل الله العفو والعافية، فلم يصل عليه صلوات الله وسلامه عليه.
    فهل لأحد أن يأتي فيقول: إن هذين الحديثين يدلان على أن أصحاب الكبائر لا تنفعهم الصلاة ولا ينفعهم الاستغفار، فلا يكون الاستغفار إلا لأصحاب الصغائر؟!
    والجواب: ليس كذلك، بل الذي يدل عليه الحديث الأول أنه صلّى عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه، لقوله: (صلوا على صاحبكم)، فالحكمة هنا أمر آخر، وهو الزجر والردع، وهذا ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل لو أن إماماً من المسلمين أو ممن كان له شأن في العلم أو الدعوة أو الخير والصلاح عند الناس رأى أن لا يصلي على رجل ما لذنب ارتكبه، أو لفعل أتاه مما يرى أنه لا يليق؛ ورأى المصلحة في ذلك؛ فإنه يحق له ذلك، ويصلي عليه غيره، ليكون في هذا زجر لمن يرتكب ذلك الفعل من غيره من الناس، وليكون في هذا عبرة وعظة، فلا يقدم أحد بعد ذلك على الاقتداء به أو على أن يفعل مثل ما فعل؛ لخوفه من أنه لو مات لا يصلى عليه أيضاً، ويعظم ذلك عند الناس، ويعلموا أن هذه كبيرة قد أتاها وذنب عظيم قد فعله.
    فهذه أحد وسائل التربية النبوية التي يمكن أن يتأسى به صلى الله عليه وسلم فيها أهل العلم والإمامة في الدين والشأن، فيجوز لهم ذلك، وهو نوع من أنواع العقوبة لأصحاب المعاصي، وفي نفس الوقت ردع وزجر لمن يعمل مثل عملهم.
    وعلى هذا يترجح ويتبين لنا أن الدعاء لأصحاب الكبائر صحيح، وثبت أنه مانع من موانع إنفاذ وتحقيق الوعيد فيهم بمقتضى هذه الأدلة.
  4. ما تكفر به الصغائر

    وأما الصغائر فلها حالات، فإما أن نقول: إن الصغائر يكفرها العمل الصالح مطلقاً، كما في حديث: ( الصلاة إلى الصلاة، ورمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة... ) إلى آخره، فإن قلنا بأن العمل الصالح يكفر الصغائر مطلقاً فالحمد لله، فلسنا في حاجة إلى إثبات تكفيرها بتلك المكفرات ما دام الإنسان لم يرتكب كبيرة.
    وإما أن نقول: لا يكفرها، فحسبنا أن الأدلة السابقة على تكفير الكبائر تدل على تكفير الصغائر من باب الأولى، فيكون أصحاب الصغائر -إن شاء الله تعالى- داخلون في هذا الوعد وفي هذا الفضل العظيم من الله سبحانه وتعالى.
    وبقيت مسألة، وهي: هل ثبت عدم إنفاذ الوعيد على سبيل القطع أم على سبيل الظن؟ أي: هل مانع الدعاء ومانع الاستغفار قطعي أم ظني؟
    والجواب: المانع ظني؛ لأنا لا ندري أقبل الدعاء أم لم يقبل؛ لأن الدعاء له شروط، وقد يعترضه موانع أيضاً، فهو ليس كالتوبة، فمن تاب فإننا نقطع -إن شاء الله- بأن الله تعالى يتوب عليه، ولا نعني المعين بالذات، لكن كل من تاب نجزم جزماً أنه يتوب الله تعالى عليه، ولا نجزم بأن كل من استغفر له يغفر له؛ لاحتمال أن يشوب هذا الاستغفار أو هذا الدعاء مانع من الموانع، أو أن يكون قد أخل فيه، أو لحكمة لله سبحانه وتعالى لا نعلمها، ومع ذلك نرجو أن يتقبل الله تعالى دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، ومن علامة الخير أن يشهد المؤمنون للميت بالخير وأن يدعوا له وأن يكثروا من الاستغفار له؛ فقد جاء في الحديث: ( مر بجنازة فأثني عليها خيراً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، ومر عليه بجنازة فأثني عليها شراً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، ثم قال: أنتم شهداء الله في الأرض ) فقوله: (وجبت) للأول معناه: وجبت له الجنة والمثوبة والرحمة والمغفرة، والآخر وجبت له العقوبة، فالمؤمنون هم شهداء الله تعالى في الأرض، وهم الذين إن أحبوا أحداً فبحب الله له وبإذن الله؛ لأن الله تعالى ( إذا أحب عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل، وينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض )، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، فمن أثنى عليه الصالحون المؤمنون خيراً فهذا نرجو له الخير عند الله، ونقول: إن هذا -إن شاء الله- من عمله الصالح ومن حسن خاتمته عند الله، وإن هذا من قبوله عند الله عز وجل، ونرجو ذلك رجاءً، ولا نجزم لمعين بأنه من أهل النار مهما كانت ذنوبه وفجوره، ولا بأنه من أهل الجنة مهما كان صلاحه وتقواه، وإنما نرجو للمحسن الثواب ونخاف على المسيء العقاب.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
  5. الدعاء المطلق للميت وإهداء القربات له

    السبب السادس هو دعاء المؤمنين واستغفارهم، وكذلك إهداء القربات والعبادات والطاعات التي يقوم بها الحي للميت.
    وهذه من أعمال الناس وليست من العبد، فهناك موانع من العبد، وموانع من الخلق، وموانع من الله عز وجل، فمن موانع الخلق أن يدعوا للميت ويستغفروا له.
    وهذا مبحث عظيم مهم، وسنذكر -إن شاء الله تعالى- ما يتعلق بالدعاء من جهة كونه مانعاً كما أسلفنا، أما تفصيل الكلام في الدعاء وأحكامه وآدابه وما قيل فيه والخلاف الذي يذكر فموضعه -إن شاء الله- في الفقرة التي أشرنا إليها.
    والدعاء منصوص عليه في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على نوعين: دعاء مطلق، ودعاء مقيد بحالات خاصة، فالدعاء المطلق ثبت في القرآن، فلك أن تستغفر للمؤمنين، أو يستغفروا لك، ودليله قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ))[الحشر:10]، وقوله تعالى عن نوح عليه السلام: (( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ))[نوح:28]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ))[محمد:19].
    فالدعاء العام أن تستغفر لنفسك وتعقب على ذلك بالاستغفار لغيرك، وتشمل بهذا كل المؤمنين، وهذا وارد ولا غبار عليه، وهو نافع أيضاً بإذن الله تبارك وتعالى للمؤمنين، ولو أن كل إنسان استغفر الله سبحانه وتعالى لنفسه ولإخوانه المؤمنين، وكذلك لو أن كل من سأل رحمة أو خيراً أو هدى أو صلاحاً أو نجاحاً في أمر طلبه لنفسه سأل مثل ذلك لإخوانه المؤمنين لانتفع المسلمون جميعاً، وهذا من آداب الدعاء؛ لأنك إذا دعوت لنفسك فقد يتقبل منك وقد لا يتقبل؛ لأن كل إنسان يريد الخير لنفسه، لكن إذا دعوت واستغفرت لإخوانك المسلمين فإنه يستجاب دعاؤك لهم؛ لأنك مخلص وصادق بإذن الله، وأنت من جملتهم، فيقال: آمين ولك مثل ذلك، فتكون قد كسبت وضمنت ما لم تضمن بدعائك لنفسك خاصة.
  6. حالات الدعاء والاستغفار المقيد للميت

    أما الدعاء والاستغفار للمسلمين أو للمؤمنين المقيد فهو ما ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيما له علاقة بالميت، وهو في ثلاث حالات:
    الحالة الأولى: الصلاة على الميت.
    والحالة الثانية: القيام على القبر.
    والحالة الثالثة: زيارة القبر.
    فهذه الثلاث الحالات ينتفع الميت بالدعاء والاستغفار له -إن شاء الله تعالى- بأي دعاء عام، ولكن هناك صيغاً خاصة تتعلق بالميت في الحالات الثلاث، فالحالة الأولى هي الصلاة على الميت، والصلاة على الميت ثابتة ومشروعة، وهي -والحمد لله- معلومة من دين الإسلام بالضرورة، وفيها نفع للمصلين ونفع للمصلى عليه، أما نفع المصلين فهو الأجر العظيم الذي ينالونه، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( من صلّى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط، فإن تبعها فله قيراطان. قيل: وما القيراطان؟ قال: أصغرهما مثل أحد ) .
    فهذا فضل عظيم يناله المصلي.
    وأما المصلى عليه فينال الشفاعة، كما جاء في الحديث الصحيح: ( ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه )
    وصيغة الدعاء الثابتة في الصلاة على الميت هي: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا)، وفيها النص على الاستغفار، وهذا يحصل -إن شاء الله- به المقصود، وهو تكفير الذنب ودفع العقوبة.
    والصيغة الأخرى: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، وأبدله داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه ...)، وإذا تحقق هذا الدعاء فقد نجا بإذن الله تعالى وإن كان من أصحاب الوعيد، وسنذكر -إن شاء الله- أن المقصود بهذا هم أصحاب الوعيد، أي: أصحاب الكبائر.
    والحالة الثانية: حالة القيام على القبر، وقد جمع الله تبارك وتعالى بين الحالتين في قوله: (( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ))[التوبة:84]، وقد ثبت فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قام على قبر رجل وقال: اسألوا له الثبات؛ فإنه الآن يسأل ).
    وقصة قيام النبي صلى الله عليه وسلم على قبر عبد الله بن أبي ابن سلول وما جادله به عمر رضي الله عنه في ذلك مشهورة، وهي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى وقام على قبره، وبعد ذلك نزلت هذه الآية، وهذا كله يأتي - إن شاء الله تعالى- تفصيله فيما بعد.
    الحالة الثالثة: هي زيارة القبور، وهذه -والحمد لله- ثابتة ومتفق عليها بين أهل السنة والجماعة ، وعلى أن المزور ينتفع، أما منفعة الزائر فهي أيضاً واضحة، وهي الاعتبار والاتعاظ، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( فزوروها فإنها تذكركم الآخرة )، وأما المزور فينتفع بزيارة إخوانه المسلمين، كما جاء في الحديث لما زار النبي صلى الله عليه وسلم أهل البقيع فقال: ( اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ) فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، وهذا يدل على أنه لو كان فيهم صاحب كبيرة فإن هذا الدعاء مستجاب في حقه، وينتفع به بإذن الله تعالى، فيكون الوعيد في حقه منتفياً، ويكون هذا من موانع حصول الوعيد.